تأثير الرأسمالية النفسية على هوية الإنسان في العصر الرقمي

في زمن أصبح فيه الإنسان مشروعًا يُسوق لنفسه بلا هوادة، يغوص هذا المقال في أعماق الرأسمالية النفسية وتأثيرها على الهوية، ويقدم أدوات حياتية للمقاومة، وانعطافة فلسفية لاستعادة الذات في عالم يحاصرها بالخوارزميات والمقارنات المستمرة.

تأثير الرأسمالية النفسية على هوية الإنسان في العصر الرقمي
هل أصبحت ذاتك منتجًا؟ عن الرأسمالية النفسية ومقاومتها


حين يتحوّل الإنسان إلى مشروع: علم الاجتماع النفسي للرأسمالية الذاتية

في زمنٍ صار فيه الإنسان لا يُقاس بما هو عليه، بل بما يُنتجه ويُقدّمه ويُسوّقه من ذاته، نشأت ظاهرة تُعرف بـ"الرأسمالية الذاتية" (Self-Branding Capitalism)، وهي حالة اجتماعية ونفسية تذوب فيها الحدود بين الشخص وهويته الشخصية من جهة، وبين قيم السوق وآليات العرض والطلب من جهة أخرى. لم تعد "الذات" محمية خلف الحميمي والمقدّس، بل أصبحت مشروعًا مفتوحًا للتسويق والتحسين والقياس، تتنافس مع غيرها على مرأى الجميع.

تعود أصول هذه الفكرة إلى نظريات "نقد الحداثة المتأخرة" التي صاغها مفكرون مثل زيجمونت باومان، وبيونغ تشول هان، وآلان إيريهون، حيث يرون أن الإنسان في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة قد تحوّل إلى "رأسماله الخاص". لم يعد مجرد عامل أو مستهلك، بل صار منتجًا ومسوّقًا لصورته، يسعى بلا هوادة إلى "استثمار نفسه" في سوق لا يرحم. هذا ما يُعرف بـ"اقتصاد الانتباه"، حيث تُقاس القيمة بمدى الظهور، ويُقاس الظهور بمدى التأثير، ويُقاس التأثير بعدد المتابعين والتفاعلات والقصص المُلهمة.

من منظور علم النفس الاجتماعي، هذه الظاهرة لا تمرّ دون أثر. فالذات المعروضة باستمرار تحت مجهر الآخرين، تتحول إلى ذات قَلِقة، هشة، تُعيد تشكيل نفسها وفق مقاييس خارجية دائمة التبدل. ويظهر هنا المفهوم الذي طرحه إرفينغ غوفمان عن "إدارة الانطباع"، حيث تصبح الحياة اليومية مسرحًا مفتوحًا، والإنسان ممثلاً يعيد ضبط ملامحه وسلوكه بحسب ما يتوقعه الجمهور. لكن المفارقة أن هذا الجمهور لم يعد الآخرين فقط، بل الذات نفسها، التي أصبحت هي الأخرى مراقِبًا صارمًا، لا يرضى بأقل من الكمال الإنتاجي والنجاح الباهر.

النظريات الحديثة في علم الاجتماع تدمج هذه الحالة بما يُعرف بـ"النيوليبرالية الذاتية" (Neoliberal Self)، حيث يُطلب من الفرد أن يكون رائد أعمال في كل جوانب حياته: في عمله، جسده، علاقاته، مشاعره، وحتى ألمه، الذي يجب أن يُستثمر كقصة ملهمة لزيادة المتابعين. وهذه المنظومة لا تنتج فقط التنافس، بل تُنتج العزلة، والإرهاق، والشعور بالذنب المستمر لعدم "استغلال الوقت" بما يكفي، أو "الاستثمار في الذات" بالشكل الأمثل.

هذه ليست مجرد تغيّرات سطحية، بل تحولات جذرية في بنية الوعي الذاتي والاجتماعي. إنها اللحظة التي يتحول فيها الإنسان إلى مشروع مفتوح، يقيس قيمته بالعين الخارجية، ويُعيد تشكيل ذاته وفق قواعد لعبة لا يتحكم فيها بالكامل. وهنا، يبرز السؤال: هل ما نعتقد أنه "تحقيق للذات" هو في الحقيقة "فقدان لها"؟

كيف تخرج من لعبة “كن منتجًا دائمًا”: تطبيقات اجتماعية ونفسية للمقاومة اليومية

حين نفتح أعيننا كل صباح على شاشات تُغرقنا بقصص النجاح المُبالغ فيها، وقوائم “العادات الخارقة” و“الروتين المثالي” و“الإنجازات اليومية”، لا نملك أحيانًا إلا أن نشعر بالتقصير، وكأننا خارج السباق. لكن الحقيقة أن هذا "السباق" نفسه مفروض، مبرمج، ومصمم ليبقيك مرهقًا، متوترًا، ومشغولًا في تحسين نفسك بلا نهاية. في ظل الرأسمالية النفسية، لا يُكافأ الإنسان على كينونته، بل على مدى تحويله لذاته إلى منتج مستهلك ومثير للإعجاب. فكيف يمكننا إذًا مقاومة هذا التيار بطريقة عملية وقابلة للتطبيق؟

أول خطوة في كسر هذا النمط هي استعادة الحق في اللا إنتاج. أن تعيش لحظات من الهدوء، من عدم الفعل، من اللا جدوى المباشرة، ليس فشلاً ولا كسلًا، بل مقاومة حقيقية. علماء النفس الاجتماعي يؤكدون على أن الراحة غير المشروطة — دون مكافأة أو مبرر — تُعيد بناء الهوية وتحرر الإنسان من التقييمات المستمرة. فبدلاً من أن يكون يومك سلسلة من الإنجازات القابلة للعرض، اجعله ساحة لحياة تُعاش لأجل ذاتها، لا لأجل الجمهور.

ثانيًا، تأتي تقنية "الوعي بالذات بدون مرآة". وهي مستوحاة من أعمال عالم النفس الأمريكي "دواين شولتز"، الذي فرّق بين الذات الحقيقية والذات الاجتماعية. مارس لحظات لا تلتقط فيها صورًا، لا تنشر فيها شيئًا، لا تنتظر فيها إعجابًا من أحد، بل تكون حاضرًا مع نفسك فقط. المشي دون هاتف، القراءة دون مشاركة الاقتباسات، الاستماع للموسيقى دون توثيق. هذه اللحظات تبني طبقات عميقة من الهوية، لا تخضع لمزاج السوق، ولا تتبدل مع خوارزميات الظهور.

ثالثًا، يُنصح بممارسة الكتابة الذاتية غير القابلة للنشر. تخصيص دفتر تكتب فيه ما لا تنوي مشاركته أبدًا، يفتح نافذة على الذات الخام. الأفكار غير المصقولة، الانفعالات غير المهذبة، الأسئلة التي لا تليق بمنصة عامة. هنا فقط، تتنفس النفس بعيدًا عن ضغط “المحتوى الملهم” أو “العلامة الشخصية”.

رابعًا، حاول تحرير علاقاتك من منطق السوق. لا تجعل من كل تواصل وسيلة لبناء شبكة، ولا من كل لقاء فرصة للاستفادة. خصص وقتًا لعلاقات لا تسوّق فيها ذاتك، بل تعيش فيها عفويتك وضعفك وصمتك أيضًا. هذه المساحات العاطفية غير المنتجة هي التي تبني التوازن، وتحافظ على روح الإنسان في وجه تسليع الذات.

وأخيرًا، مارس “حقك في أن تكون غير مميز” لبعض الوقت. نحن لسنا مطالبين دائمًا بأن نكون الأفضل، الأذكى، الأجمل، أو حتى "النسخة الأفضل من أنفسنا". يكفي أحيانًا أن نكون موجودين فقط، كما نحن، في لحظة هادئة لا يراقبنا فيها أحد.

هذه الممارسات قد لا تغيّر النظام العالمي، لكنها بالتأكيد تُحدث شرخًا في جدران القفص الذي نحمله معنا في أذهاننا.

ما الذي تبقى من الإنسان؟ تأملات في زمن تسليع الذات

حين تنظر في المرآة وتجد نفسك تتساءل: هل ما أفعله اليوم هو تعبير عن ذاتي؟ أم هو فقط استجابة لضغوط خارجية تقول لي: "كن أكثر، افعل أكثر، أظهر أكثر"؟ فإنك قد وصلت إلى جوهر المأزق الوجودي الذي نعيشه اليوم.

لم يعد الإنسان مجرد كائن يبحث عن المعنى، بل صار منتجًا يسوّق لنفسه، يقيس قيمته بعدد التفاعلات، ويقضي حياته في ورشة لا تنتهي لصناعة "النسخة الأفضل" منه. لكن ما معنى الأفضل؟ ومن يحدد هذه المعايير؟ وهل يمكن لحياة تُقاس بخوارزميات أن تكون صادقة أو مُرضية فعلًا؟

في قلب هذا الزحام، تهمس الأصوات الفلسفية العميقة من داخلنا: "أنت لست مشروعًا". لست مضطرًا لتحويل كل فكرة إلى محتوى، ولا كل تجربة إلى درس، ولا كل حزن إلى قصة تحفيزية. هناك جمال عميق في ما لا يُقال، وما لا يُعرض، وما لا يُنتَج لأجل الجمهور. فبعض ما فيك خُلِق ليُعاش بصمت.

الإنسان لا يُختزل في إنتاجيته، ولا في صورته العامة. إن القيمة لا تُستمد من جدوله اليومي أو من بريق إنجازاته، بل من قدرته على التوقف، على التأمل، على أن يسير ضد التيار حين يُغرقه، وعلى أن يختار الصمت حين يُفرَض عليه الضجيج.

إن الفلسفة الأخلاقية تُعلّمنا أن القيمة الحقيقية للإنسان لا تأتي من السوق، بل من جوهره: من نُبله، وصدقه، وعمق شعوره، وحنينه لما هو إنساني أكثر من أن يُقاس أو يُباع. نحن لسنا مجرد علامات تجارية بشرية، بل أرواح تبحث عن الطمأنينة، عن لحظات صدق وسط هذا العالم المؤتمت.

في النهاية، لا تُقاس الحياة بطول قائمة الإنجازات، بل بمدى ما احتوته من لحظات حقيقية، من مشاعر غير مصفّاة، ومن مساحات لم نكن فيها للبيع، بل كنا فيها لأنفسنا، فقط.